سورة النساء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك. واختيار الجملة الإسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزًا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق، وعلل سبحانه الحكم بأمرين: وهبي وكسبي فقال عز شأنه: {ا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فالباء للسببية وهي متعلقة بـ {قَوَّامُونَ} كعلى ولا محذور أصلًا، وجوز أن تتعلق حذوف وقع حالًا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبًا أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل، أو متلبسين بالتفضيل، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية، وقيل: للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزًا إلى أنه غني عن التفصيل، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين، والرجال بعكسهن كما لا يخفى، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر، وبالإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك {وَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم} عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى، وما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف، و{مِنْ} تبعيضية أو ابتدائية متعلقة بأنفقوا أو حذوف وقع حالًا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق كما قال مجاهد المهر، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه، والنفقة عليهنّ، والآية كما روي عن مقاتل نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم ثم قال: أردنا أمرًا وأراد الله تعالى أمرًا والذي أراده الله تعالى خير» وقال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة، وقال بعضهم: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذكر قريبًا منه، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى، وفي الخبر «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» واستدل بها أيضًا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قوامًا عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] واستدل بها أيضًا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قوامًا بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له.
{فالصالحات} أي منهن {قانتات} شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، والمراد فالصالحات منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن {حفظات لّلْغَيْبِ} أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن، قال الثوري وقتادة: أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، فاللام عنى في، والغيب عنى الغيبة، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة، فاللام على ظاهرها، وقيل: المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر، وحينئذٍ لا حاجة إلى ما قيل في اللام، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {الرجال قَوَّامُونَ} إلى {الغيب}» يبعد هذا القول؛ ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول {ا حَفِظَ الله} أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج، وقيل: بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن فما إما موصولة أو مصدرية، وقرأ أبو جعفر {ا حَفِظَ الله} بالنصب، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة كدين الله، وحقه لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد، وما موصولة أو موصوفة، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذٍ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرًا مفردًا عائدًا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل.
فمن حفظ الله، وجعله ابن جني كقوله:
فإن الحوادث أودى بها ***
ولا يخفى ما فيه من التكلف، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلابد من مطابقته له في الكثرة، وإلا لم يصدق على جميع أفراده، وقد نص على ذلك في الدر المصون. وقرأ ابن مسعود {فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن}، وأخرج ابن جرير عنه زيادة {فأصلحوا إليهن} فقط.
{والتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم، من النشز بسكون الشين وفتحها وهو المكان المرتفع ويكون عنى الارتفاع {فَعِظُوهُنَّ} أي فانصحوهن وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن، ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير {تَخَافُونَ} بتعلمون، وبه قال الفراء كما نقله عنه الطبرسي وجاء الخوف بهذا كما في القاموس، وقيل: المراد: تخافون دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد.
واختار في البحر في الكلام مقدرًا وأصله: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن.
{واهجروهن فِى المضاجع} أي مواضع الاضطجاع، والمراد: أتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلونهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقيل: المراد أهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفتوا إليهن، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضًا عن ترك الجماع، وقيل: المضاجع المبايت أي أهجروا حجرهن ومحل مبيتهن، وقيل: {فِى} للسببية أي أهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى، فالهجران على هذا بالمنطق، قال عكرمة: بأن يغلظ لها القول، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء، وقال ابن المنير: لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما، وقرينة {المضاجع} ترشد إلى أنه الجماع، فإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط. انتهى، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر، ولعدّ تركه من التفريط؛ وقرئ {في المضطجع} و{المضجع}.
{واضربوهن} يعني ضربًا غير مبرح كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفسر غير المبرح بأنت لا يقطع لحمًا ولا يكسر عظمًا.
وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ثم تهجر ثم تضرب إذ لو عكس استغنى بالأشدّ عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في {فَعِظُوهُنَّ} لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على «أجزئه» مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج، فإنما النص هو الدال على الترتيب. هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة والزوج يريدها وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه وترك الصلاة في رواية والغسل، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله تعالى عنه قالت: «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: «ولن يضرب خياركم» وذكر الشعراني قدس سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب» وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم» وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» وللخبر محمل آخر لا يخفى.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أي فلا تطلبوا سبيلًا وطريقًا إلى التعدي عليهن، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فالبغي إما عنى الطلب، و{سَبِيلًا} مفعوله والجار متعلق به، أو صفة النكرة قدم عليها، وإما عنى الظلم، و{سَبِيلًا} منصوب بنزع الخافض، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن {إِنَّ الله كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن..


{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
{وَإِنْ خِفْتُمْ} الخطاب كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما للحكام، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة؛ وقيل: لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما، وروى ذلك عن السدي، والمراد فإن علمتم كما قال ابن عباس أو فإن ظننتم كما قيل {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي الزوجين، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحًا فقد جرى ضمنًا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها، والرجال والنساء عليهما، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلًا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، وبين من الظروف المكانية التي يقل تصرفها، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله:
يا سارق الليلة أهل الدار ***
أو الفاعل كقولهم صام نهاره، والأصل شقاقًا بينهما أي أن يخالف أحدهما الآخر، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه، وقيل: الإضافة عنى في وقيل: إن بين هنا عنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء، ولم يرتض ذلك المحققون.
{فابعثوا} أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين {حُكْمًا} أي رجلًا عدلًا عارفًا حسن السياسة والنظر في حصول المصلحة {مّنْ أَهْلِهِ} أي الزوج، و{مِنْ} إما متعلق بابعثوا فهو لابتداء الغاية، وإما حذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض {وَحَكَمًا} آخر على صفة الأول {مّنْ أَهْلِهَا} أي الزوجة، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كلّ من حب وبغض وإرادة صحبة أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصبا من الأجانب جاز، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل لهما وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير، وبه قال الشعبي فقد أخرج الشافعي في الأم. والبيهقي في السنن. وغيرهما عن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة إلى علي كرم الله تعالى وجهه ومع كل واحد منهم فئام من الناس فأمرهم علي كرم الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلًا حكمًا من أهله ورجلًا حكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي كرم الله تعالى وجهه: كذبت والله حتى تقر ثل الذي أقرت به، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ} إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهل الرجل ورجلًا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي، وقيل: ليس لهما ذلك، وروي ذلك عن الحسن.
فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست بأيديهما، وإلى ذلك ذهب الزجاج، ونسب إلى الإمام الأعظم، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال: للرجل كذبت حتى تقر ثل الذي أقرت به. وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابًا عما روي عن ابن عباس، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر. وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم، وعن الشافعي روايتان في المسألة، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك. وقال ابن العربي في الأحكام: إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحَكَم اسم في الشرع له.
{إِن يُرِيدَا} أي الحكمان {إصلاحا} أي بين الزوجين وتأليفًا {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما؛ فالضمير أيضًا للحكمين، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن جبير والسدي. وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما لألفة والوفاق، وأن يكون الأول: للحكمين، والثاني: للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة، وأن يكون الأول: للزوجين، والثاني: للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحًا واتفاقًا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه {إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة عليّ كرم الله تعالى وجهه، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفًا، وفيها كما قال ابن الفرس رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين، وقال: تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين.


{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
{واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس، وقدم الأمر بما يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم، وفي ذلك إيماء أيضًا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك، والعبادة أقصى غاية الخضوع، و{شَيْئًا} إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئًا من الأشياء صنمًا كان أو غيره، فالتنوين للتعميم. واختار عصام الدين كونه لتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم أي لا تشركوا به شيئًا حقيرًا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أيّ تفرق، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئًا من الإشراك جليًا أو خفيًا، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل: ولعل الأوضح أن يقال: إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل: واعبدوا الله مخلصين له ويؤل ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولًا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملًا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام.
{وبالوالدين إحسانا} أي وأحسنوا بهما إحسانًا فالجار متعلق بالفعل المقدر، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام وأحسن يتعدى بالباء وإلى واللام، وقيل: إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف. والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. {وَبِذِى القربى} أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرةقال في البحر: لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد، وذلك في بني إسرائيل. {واليتامى والمساكين} من الأجانب {والجار ذِى القربى} أي الذي قرب جواره {والجار الجنب} أي البعيد من الجنابة ضد القرابة، وهي على هذا مكانية، ويحتمل أن يراد بالجار ذي القربى من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين وبالجار الجنب الذي لا قرابة له ولو مشركًا، أخرج أبو نعيم.
والبزار من حديث جابر بن عبد الله وفيه ضعف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب»، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر: أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» والظاهر أن مبنى الجوار على العرف، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال: أربعين دارًا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره، وروي مثله عن الزهري. وقيل: أربعين ذراعًا، ويبدأ بالأقرب فالأقرب، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا، وقرئ والجار ذا القربى بالنصب أي وأخص الجار، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار. وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» وفيما سمعه عبد الله كفاية، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
{والصاحب بالجنب} هو الرفيق في السفر أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وكلا القولين عن ابن عباس، وقيل: الرفق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم. وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه الصاحب بالجنب المرأة، والجار متعلق حذوف وقع حالًا من الصاحب، والعامل فيه الفعل المقدر {وابن السبيل} وهو المسافر أو الضيف. {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} قال مقاتل: من عبيدكم وإمائكم، وكان كثيرًا ما يوصي بهم صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه» ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسا يليق بكل وينبغي {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا} أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلًا ولا يلتفت إليهم {فَخُورًا} يعد مناقبه عليهم تطاولًا وتعاظمًا، والجملة تعليل للأمر السابق.
أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية {إِنَّ الله} إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس» والأخبار في هذا الباب كثيرة.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15